فصل: تفسير الآيات رقم (43- 47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏15‏)‏ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى الاستدلال بما ذرأ في الأرض، ذكر ما امتن به من تسخير البحر‏.‏ ومعنى تسخيره‏:‏ كونه يتمكن الناس من الانتفاع به للركوب في المصالح، وللغوص في استخراج ما فيه، وللاصطياد لما فيه‏.‏ والبحر جنس يشمل الملح والعذب، وبدأ أولاً من منافعه بما هو الأهم وهو الأكل، ومنه على حذف مضاف أي‏:‏ لتأكلوا من حيوانه طرياً، ثم ثنى بما يتزين به وهو الحلية من اللؤلؤ والمرجان، ونبه على غاية الحلية وهو اللبس‏.‏ وفيه منافع غير اللبس، فاللحم الطري من الملح والعذب، والحلية من الملح‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ العذب يخرج منه لؤلؤ لا يلبس إلا قليلاً وإنما يتداوى به، ويقال‏:‏ إنّ في الزمرد بحرياً، فأما لتأكلوا فعام في النساء والرجال، وأما تلبسونها فخاص بالنساء‏.‏ والمعنى‏:‏ يلبسها نساؤكم‏.‏ وأسند اللبس إلى الذكور، لأنّ النساء إنما يتزيَّن بالحلية من أجل رجالهن، فكأنها زينتهم ولباسهم‏.‏ ولما ذكر تعالى نعمة الأكل منه والاستخراج للحلية، ذكر نعمة تصرف الفلك فيه ماخرة أي‏:‏ شاقة فيه، أو ذات صوت لشق الماء لحمل الأمتعة والأقوات للتجارة وغيرها، وأسند الرؤية إلى المخاطب المفرد فقال‏:‏ وترى، وجعلها جملة معترضة بين التعليلين‏:‏ تعليل الاستخراج، وتعليل الابتغاء، فلذلك عدل عن جمع المخاطب، والظاهر عطف، ولتبتغوا على التعليل قبله كما أشرنا إليه‏.‏ وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفاً على علة محذوفة أي‏:‏ لتبتغوا بذلك‏.‏ ولتبتغوا، وأن يكون على إضمار فعل أي‏:‏ وفعل ذلك لتبتغوا‏.‏ والفضل هنا حصول الأرباح بالتجارة، والوصول إلى البلاد الشاسعة، وفي هذا دليل على جواز ركوب البحر‏.‏ ولعلكم تشكرون، على ما منحكم من هذه النعم‏.‏ قيل‏:‏ خلق الله الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة‏:‏ ما هي بمقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجيال، لم تدر الملائكة مم خلقت‏.‏ وعطف وأنهاراً على رواسي‏.‏ ومعنى ألقى‏:‏ جعل، ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً‏}‏ وقوله‏:‏ وجعل فيها رواسي، من فوقها‏.‏ وقال ‏{‏وألقيت عليك محبة مني‏}‏ أي‏:‏ جعلت‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ قال المتأولون‏:‏ ألقى بمعنى خلق وجعل، وهي عندي أخص من خلق وجعل، وذلك أن ألقى يقتضي أن الله أوجد الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن، عن قيس بن عباد‏:‏ أنّ الله تعالى لما خلق الأرض جعلت تمور إلى آخر الكلام السابق، وهو أيضاً مروي عن وهب بن منبه‏.‏ وقال ابن عطية أيضاً‏:‏ وقوله‏:‏ وأنهاراً، منصوب بفعل مضمر تقديره‏:‏ وجعل، أو خلق أنهاراً‏.‏ أو إجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ألقى، ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار انتهى‏.‏

وأي إجماع في هذا، وقد حكى عن المتأولين أنّ ألقى بمعنى خلق وجعل، وقال الزمخشري‏:‏ وأنهاراً، وجعل فيها أنهاراً لأنّ ألقى فيه معنى جعل‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً‏}‏ وقال أبو البقاء‏:‏ أي وشق أنهاراً وعلامات أي‏:‏ وضع علامات، ويجوز أن يعطف على رواسي‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال، فلهذا السبب أتبع ذكرها بتفجير الأنهار، وسبلاً طرقاً إلى مقاصدكم لعلكم تهتدون بالسبل إلى مقاصدكم، هذا هو الظاهر، ويدل عليه ما بعده‏.‏ وقال تعالى‏:‏ وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون‏.‏ وقيل‏:‏ تهتدون أي‏:‏ بالنظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها، فهو من الهداية إلى الحق، ودين الله‏.‏ وعلامات هي معالم الطرق، وكل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك قاله الزمخشري، وهو معنى قول ابن عباس‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ ورأيت جماعة يتعرفون الطرقات بشم التراب‏.‏ وقال ابن عيسى‏:‏ العلامة صورة يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وعلامات نصب كالمصدر أي‏:‏ فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها، وعلامات أي‏:‏ عبرة وإعلاماً في كل سلوك، فقد يهتدي بالجبال وبالأنهار وبالسبل انتهى‏.‏ وقال ابن الكلبي‏:‏ العلامات الجبال‏.‏ وقال النخعي ومجاهد‏:‏ النجوم‏.‏ وأغرب ما فسرت به العلامات أنها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تسمى بالعلامات، وذلك في بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن، فإذا ظهرت كانت علامة للوصول لبلاد الهند وأمارة للنجاة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ وبالنجم، على أنه اسم جنس، ويؤيد ذلك قراءة ابن وثاب‏:‏ وبالنجم بضم النون والجيم، وقراءة الحسن‏:‏ بضم النون‏.‏ وفي اللوامح الحسن‏:‏ النجم بضمتين، وابن وثاب‏:‏ بضمة واحدة، وجاء كذلك عن ابن هشام الرفاعي، ولا شك في أنه يذكره عن أصحاب عاصم انتهى‏.‏ وذلك جمع كسقف وسقف، ورهن وترهن، وجعله مما جمع على فعل أولى من حمله على أنه أراد النجوم، فحذف الواو‏.‏ إلا أن ابن عصفور ذكر أن قولهم‏:‏ النجم من ضرورة الشعر، وأنشد‏:‏

إن الذي قضى بذا قاض حكم *** أن يرد الماء إذا غاب النجم

قال‏:‏ يريد النجوم‏.‏ مثل قوله‏:‏

حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق *** يريد‏:‏ الحلوق‏.‏ والتسكين‏:‏ قيل تخفيف، وقيل‏:‏ لغة‏.‏ وعن السدي‏:‏ هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المراد الجدي والفرقدان انتهى‏.‏ قيل‏:‏ والجدي هو السابع من بنات نعش الصغرى، والفرقدان الأولان منها، وليس بالجدي الذي هو المنزلة، وبعضهم يصغره فيقول‏:‏ جدي‏.‏ وفي الحديث عن ابن عباس أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قوله‏:‏ وبالنجم، فقال‏:‏ «هو الجدي» ولو صح هذا لم يعدل أحد عنه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ عليه قبلتكم، وبه تهتدون في بركم وبحركم‏.‏

وقيل‏:‏ هو القطب الذي لا يجري‏.‏ وقيل‏:‏ هو الثريا‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إذا طلب الجوزاء والنجم طالع *** فكل مخاضات الفرات معابر

وقال آخر‏:‏

حتى إذا ما استقل النجم في غلس *** وغودر البقل ملوى ومحصود

أي ومنه ملوى، ومنه محصود، وذلك إنما يكون عند طلوع الثريا‏.‏ وهم‏:‏ ضمير غيبة خرج من الخطاب إلى الغيبة، كان الضمير النعت به إلى قريش إذ كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن لغيرهم، فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم‏.‏ وقدم المجرور على ما يتعلق به اعتناء ولأجل الفاصلة‏.‏ والزمخشري على عادته كأنه قيل‏:‏ وبالنجم خصوصاً هم يهتدون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 23‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏17‏)‏ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏19‏)‏ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ذكر تعالى التباين بين من يخلق وهو الباري تعالى، وبين من لا يخلق وهي الأصنام، ومن عبد ممن لا يعقل، فجدير أن يفرد بالعبادة من له الإنشاء دون غيره‏.‏ وجيء بمن في الثاني لاشتمال المعبود غير الله على من يعقل وما لا يعقل، أو لاعتقاد الكفار أنّ لها تأثيراً وأفعالاً، فعوملت معاملة أولي العلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق، أو لتخصيصه بمن يعلم‏.‏ فإذا وقعت البينونة بين الخالق وبين غير الخالق، من أولي العلم فكيف بمن لا يعلم البتة كقوله‏:‏ ‏{‏ألهم أرجل يمشون بها‏}‏ أي‏:‏ أن آلهتهم منحطة عن حال من له أرجل، لأنّ من له هذه حي، وتلك أموات، فكيف يصح أن يعبد لا أن من له رجل يصح أن يعبد‏؟‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حق الإلزام أن يقال لهم‏:‏ أفمن لا يخلق كمن يخلق‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له، وسووا بينه وبينه، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله‏:‏ أفمن يخلق كمن لا يخلق، ثم وبخهم بقوله‏:‏ أفلا تذكرون، أي‏:‏ مثل هذا لا ينبغي أن تقع فيه الغفلة‏.‏ والنعمة يراد بها النعم لا نعمة واحدة، يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا تحصوها‏}‏ إذ ينتفي العدو الإحصاء في الواحدة، والمعنى‏:‏ لا تحصوا عدها، لأنها لكثرتها خرجت عن إحصائكم لها، وانتفاء إحصائها يقتضي انتفاء القيام بحقها من الشكر‏.‏ ولما ذكر نعماً سابقة أخبر أنّ جميع نعمه لا يطيقون عدها‏.‏ وأتبع ذلك بقوله‏:‏ إن الله لغفور رحيم، حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعم، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها‏.‏ ولما كان الإنسان غير قادر على أداء شكر النعم، وأن له حالة يعرض فيها منه كفرانها قال في عقب الآية التي في ابراهيم‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لظلوم كفار‏}‏ أي لظلوم بترك الشكر كفار للنعمة‏.‏ وفي هذه الآية ذكر الغفران والرحمة لطفاً به، وإيذاناً في التجاوز عنه‏.‏ وأخبر تعالى أنه يعلم ما يسرون، وضمنه الوعيد لهم، والإخبار بعلمه تعالى‏.‏ وفيه التنبيه على نفي هذه الصفة الشريفة عن آلهتهم‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ بالتاء من فوق في تسرون وتعلنون وتدعون، وهي قراءة‏:‏ مجاهد، والأعرج، وشيبة، وأبي جعفر، وهبيرة، عن عاصم على معنى‏:‏ قل لهم‏.‏ وقرأ عاصم في مشهوره‏:‏ يدعون بالياء من تحت، وبالتاء في السابقتين‏.‏ وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله‏:‏ يعلم الذي يبدون وما يكتمون، وتدعون بالتاء من فوق في الثلاثة‏.‏ وقرأ طلحة‏:‏ ما يخفون وما يعلنون، وتدعون بالتاء من فوق، وهاتان القراءتان مخالفتان لسواد المصحف، والمشهور ما روي عن الأعمش وغيره، فوجب حملها على التفسير، لا على أنها قرآن‏.‏

ولما أظهر تعالى التباين بين الخالق وغيره، نص على أنّ آلهتهم لا تخلق، وعلى أنها مخلوقة‏.‏ وأخبر أنهم أموات‏.‏ وأكد ذلك بقوله‏:‏ غير أحياء، ثم نفى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم، فضلاً عن العلم الذي تتصف به العقلاء‏.‏ وعبر بالذين وهو للعاقل عومل غيره معاملته، لكونها عبدت واعتقدت فيها الألوهية، وقرأ محمد اليماني‏:‏ يدعون بضم الياء وفتح العين مبنياً للمفعول، والظاهر أنّ قوله‏:‏ وهم يخلقون، أي‏:‏ الله أنشأهم واخترعهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ووجه آخر وهو أن يكون المعنى‏:‏ أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير، وهم لا يقدرون على ذلك فهم أعجز من عبدتهم انتهى‏.‏ وأموات خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هم أموات‏.‏ ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر‏.‏ والظاهر أن هذه كلها مما حدث به عن الأصنام، ويكون بعثهم إعادتها بعد فنائها‏.‏ ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏}‏ وقيل‏:‏ معنى بعثها إثارتها، كما تقول‏:‏ بعثت النائم من نومه إذ نبهته، كأنه وصفهم بغاية الجمود أي‏:‏ وإن طلبتهم بالتحريك أو حركتهم لم يشعروا بذلك، ونفى عنهم الحياة لأنّ من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطف التي ينشئها الله حيواناً، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها‏.‏ وأما الأصنام من الحجارة والخشب فأموات لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها‏.‏ وقيل‏:‏ والذين تدعون، هم الملائكة، وكان ناس من الكفار يعبدونهم‏.‏ وأموت أي‏:‏ لا بد لهم من الموت، وغير أحياء أي‏:‏ غير باق حياتهم، وما يشعرون أي‏:‏ لا علم لهم بوقت بعثهم‏.‏ وجوزوا في قراءة‏:‏ والذين يدعون، بالياء من تحت أن يكون قوله‏:‏ أو موت، يراد به الكفار الذين ضميرهم في‏:‏ يدعون، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال‏.‏ غير مهتدين وما بعده عائد عليهم، والبعث الحشر من قبورهم‏.‏ وقيل‏:‏ في هذا التقدير وعيد أي‏:‏ أيان يبعثون إلى التعذيب‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في وما يشعرون، للأصنام وفي‏:‏ يبعثون، لعبدتها‏.‏ أي‏:‏ لا تشعر الأصنام متى تبعث عبدتها‏.‏ وفيه تهكم بالمشركين، وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعث عبدتهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبادتهم‏.‏ وتلخص من هذه الأقوال أن تكون الإخبار بتلك الجمل كلها من المدعوين آلهة، أما الأصنام، وأما الملائكة، أو يكون من قوله‏:‏ أموات إلى آخره، إخباراً عن الكفار‏.‏ أو يكون وما يشعرون أيان يبعثون، فقط إخباراً عن الكفار، أو يكون وما يشعرون إخباراً عن المدعوين، ويبعثون‏:‏ إخباراً عن الداعين العابدين‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن إيان بكسر الهمزة، وهي لغة قومه سليم‏.‏ والظاهر أنّ قوله‏:‏ إيان، معمول ليبعثون، والجملة في موضع نصب بيشعرون، لأنه معلق‏.‏

إذ معناه العلم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه نفى عنهم علم ما انفرد بعلمه الحي القيوم، وهو وقت البعث إذا أريد بالبعث الحشر إلى الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله‏:‏ وما يشعرون‏.‏ وأيان يبعثون ظرف لقوله‏:‏ آلهكم إله واحد، أخبر عن يوم القيامة أنّ الإله فيه واحد انتهى‏.‏ ولا يصح هذا القول لأنّ أيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفاً، إما استفهاماً، وإما شرطاً‏.‏ وفي هذا التقدير تكون ظرفاً بمعنى وقت مضافاً للجملة بعدها، معمولاً لقوله‏:‏ واحد، كقولك‏:‏ يوم يقوم زيد قائم‏.‏ وفي قوله‏:‏ أيان يبعثون دلالة على أنه لا بد من البعث، وأنه من لوازم التكليف‏.‏ ولما ذكر تعالى ما اتصفت به آلهتهم بما ينافي الألوهية، أخبر تعالى أنّ إله العالم هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ وأن الذين لا يؤمنون بالجزاء بعد وضوح بطلان أن تكون الإلهية لغيره بل له وحده، هم مستمرون على شركهم، منكرون وحدانيته، مستكبرون عن الإقرار بها، لاعتقادهم الإلهية لأصنامهم وتكبرها في الوجود‏.‏ ووصفهم بأنهم لا يؤمنون بالآخرة مبالغة في نسبة الكفر إليهم، إذ عدم التصديق بالجزاء في الآخرة يتضمن التكذيب بالله تعالى وبالبعث، إذ من آمن بالبعث يستحيل أن يكذب الله عز وجل‏.‏ وقيل‏:‏ مستكبرون عن الإيمان برسول الله وأتباعه‏.‏ وقال العلماء‏:‏ كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ «إنّ المستكبرين يجيؤون أمثال الذر يوم القيامة، يطؤهم الناس بأقدامهم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وتقدم الكلام في ‏{‏لا جرم‏}‏ في هود‏.‏ وقرأ عيسى الثقفي إن بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما قبله‏.‏ وقال بعض أصحابنا‏:‏ وقد يغني لا جرم عن لفظ القسم، تقول‏:‏ لا جرم لآتينك، فعلى هذا يكون لقوله‏:‏ إن الله بكسر الهمزة تعلق بلا جرم، ولا يكون استئنافاً‏.‏ وقد قال بعض الأعراب لمرداس الخارجي‏:‏ لا جرم والله لأفارقنك أبداً، نفى كلامه تعلقها بالقسم‏.‏ وفي قوله‏:‏ يعلم ما يسرون وما يعلنون وعيد وتنبيه على المجازاة، وقال يحيى بن سلام، والنقاش‏:‏ المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم انتهى‏.‏ ولا يحب المستكبرين عام في الكافرين والمؤمنين، يأخذ كل واحد منهم بقسطه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 29‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ سبب نزول وإذا قيل لهم الآية، أنّ النضر بن الحرث سافر عن مكة إلى الحيرة، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة، وأخبار اسفنديار ورستم، فجاء إلى مكة فكان يقول‏:‏ إنما يحدث محمد بأساطير الأولين وحديثي أجمل من حديثه‏.‏ وما كلمة استفهام مفعول بأنزل، أو مبتدأ خبره ذا بمعنى الذي، وعائده في أنزل محذوف أي‏:‏ أي شيء الذي أنزله‏.‏ وأجاز الزمخشري أن يكون ماذا مرفوعاً بالابتداء قال‏:‏ بمعنى أي شيء أنزله ربكم‏.‏ وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في ضرورة الشعر، والضمير في لهم عائد على كفار قريش‏.‏ وماذا أنزل ليس معمولاً لقيل على مذهب البصرين، لأنه جملة، والجملة لا تقع موقع المفعول الذي لم يسم فاعله، كما لا تقع موقع الفاعل‏.‏ وقرئ شاذاً‏:‏ أساطير بالنصب على معنى ذكر ثم أساطير، أو أنزل أساطير على سبيل التهكم والسخرية، لأنّ التصديق بالإنزال ينافي أساطير، وهم يعتقدون أنه ما نزل شيء ولا أن ثمّ منزل‏.‏ وبنى قيل‏:‏ للمفعول، فاحتمل أن كون القائل بعضهم لبعض، واحتمل أن يكون المؤمنون قالوا لهم على سبيل الامتحان‏.‏ وقيل‏:‏ قائل ذلك الذين تقاسموا مداخل مكة ينفرون عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج‏:‏ ماذا أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالوا‏:‏ أحاديث الأولين‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ برفع أساطير، فاحتمل أن يكون التقدير المذكور‏:‏ أساطير، أو المنزل أساطير، جعلوه منزلاً على سبيل الاستهزاء، وإن كانوا لا يؤمنون بذلك‏.‏ واللام في ليحملوا لام الأمر على معنى الحتم عليهم والصغار الموجب لهم، أو لام التعليل من غير أن يكون غرضاً كقولك‏:‏ خرجت من البلد مخافة الشر، وهي التي يعبر عنها بلام العاقبة، لأنهم لم يقصدوا بقولهم‏:‏ أساطير الأولين، أن يحملوا الأوزار‏.‏ ولما قال ابن عطية‏:‏ إنه يحتمل أن تكون لام العاقبة قال‏:‏ ويحتمل أن يكون صريح لام كي على معنى قدر هذا لكذا، وهي لام التعليل، لكنه لم يعلقها بقوله‏.‏ قالوا‏:‏ بل أضمر فعلاً آخر وهو‏:‏ قدر هذا، وكاملة حال أي‏:‏ لا ينقص منها شيء، ومِن للتبعيض‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنه يحمل من وزر كل من أضل أي‏:‏ بعض وزر من ضلّ بضلالهم، وهو وزر الإضلال، لأنّ المضل والضال شريكان، هذا يضله، وهذا يطاوعه على إضلاله، فيتحاملان الوزر، وقال الأخفش‏:‏ مِن زائدة أي‏:‏ وأوزار الذين يضلونهم، والمعنى‏:‏ ومثل ‏{‏أوزار الذين يضلونهم‏}‏ كقوله‏:‏ «فعليه وزرها ووزر عن عمل بها إلى يوم القيامة» المراد‏:‏ ومثل وزر، والمعنى‏:‏ أن الرئيس إذا وضع سنة قبيحة عظم عقابه حتى أن ذلك العقاب يكون مساوياً لعقاب كل من اقتدى به في ذلك‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ ليست مِن للتبعيض، لأنه يستلزم تخفيف الأوزار عن الاتباع، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» لكنها للجنس أي‏:‏ ليحملوا من جنس أوزار الاتباع انتهى‏.‏

ولا تتقدر من التي لبيان الجنس هذا التقدير الذي قدره الواحدي، وإنما تقدر‏:‏ الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم، فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير‏.‏ وبغير علم قال الزمخشري‏:‏ حال من المفعول أي‏:‏ يضلون من لا يعلم أنهم ضلال‏.‏ وقال غيره‏:‏ حال من الفاعل وهو أولى، إذ هو المحدث عنه المسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية، والمعنى‏:‏ أنهم يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال‏.‏ ثم أخبر تعالى عن سوء ما يتحملونه للآخرة، وتقدم الكلام في إعراب مثل ساء ما يزرون‏.‏ فأتى الله أي‏:‏ أمره وعذابه والبنيان، قيل‏:‏ حقيقة‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ الذين من قبلهم نمرود بنى صرحاً ليصعد بزعمه إلى السماء، وأفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش، وقاله كعب الأحبار‏.‏ وقال ابن عباس ووهب‏:‏ طوله في السماء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع، فبعث الله تعالى عليه ريحاً فهدمته، وخر سقفه عليه وعلى اتباعه‏.‏ وقيل‏:‏ هدمه جبريل بجناحه، وألقى أعلاه في البحر، والحقف من أسفله‏.‏ وقال ابن الكلبي‏:‏ المراد المقتسمون المذكورون في سورة الحجر‏.‏ وقيل‏:‏ الذين من قبلهم بخت نصر وأصحابه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ قريات قوم لوط، وقالت فرقة‏:‏ المراد بالذين من قبلهم من كفر من الأمم المتقدمة ومكر، ونزلت به عقوبة من الله، ويكون فأتى الله بنيانهم إلى آخره تمثيلاً والمعنى‏:‏ أنهم سوّوا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين، فأتى البنيان من الأساطين بأن تضعضعت، فسقط عليهم السقف وهلكوا ونحوه‏:‏ من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً‏.‏ ومن القواعد لابتداء الغاية أي‏:‏ أتاهم أمر الله من جهة القواعد‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المراد بقوله‏:‏ فخرَّ عليهم السقف من فوقهم‏.‏ جاءهم العذاب من قبل السماء التي هي فوقهم، وقاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ينجر إلى اللغز‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ من فوقهم، رفع الاحتمال في قوله‏:‏ فخرَّ عليهم السقف، فإنك تقول‏:‏ انهدم على فلان بناؤه وليس تحته، كما تقول‏:‏ انفسد عليه، وقوله‏:‏ من فوقه، ألزم أنهم كانوا تحته انتهى‏.‏ وهذا الذي قاله ابن الأعرابي قال‏:‏ يعلمك أنهم كانوا جالسين تحته، والعرب تقول‏:‏ خر علينا سقف، ووقع علينا سقف، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه‏.‏ وإن لم يكن وقع عليه فجاء بقوله من فوقهم ليخرج هذا الذي في كلام العرب فقال‏:‏ من فوقهم، أي‏:‏ عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا، فأتاهم العذاب‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يعني البعوضة التي أهلك بها نمروذ، وقيل‏:‏ من حيث لا يشعرون، من حيث ظنوا أنهم في أمان‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بنيانهم، وقرأت فرقة بنيتهم‏.‏ وقرأ جعفر‏:‏ بيتهم، والضحاك‏:‏ بيوتهم‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ السقف مفرداً، والأعرج السقف بضمتين وزيد بن علي ومجاهد، بضم السين فقط‏.‏ وتقدم توجيه مثل هاتين القراءتين في وبالنجم‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ السقف بفتح السين وضم القاف، وهي لغة في السقف، ولعل السقف مخفف منعه، ولكنه كثر استعماله كما قالوا في رجل رجل وهي لغة تميمية‏.‏ ولما ذكر تعالى ما حل بهم في دار الدنيا، ذكر ما يحل بهم في الآخرة‏.‏ ويخزيهم‏:‏ يعم جميع المكاره التي تحل بهم، ويقتضي ذلك إدخالهم النار كقوله‏:‏ ‏{‏ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏}‏ أي أهنته كل الإهانة‏.‏ وجمع بين الإهانة بالفعل، والإهانة بالقول بالتقريع والتوبيخ في قوله‏:‏ يخزيهم‏.‏ ويقول‏:‏ أين شركائي، أضاف تعالى الشركاء إليه، والإضافة تكون بأدنى ملابسة، والمعنى‏:‏ شركائي في زعمكم، إذ أضاف على الاستهزاء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ شركائي ممدوداً مهموزاً مفتوح الياء، وفرقة كذلك‏:‏ تسكنها، فسقط في الدرج لالتقاء الساكنين‏.‏ والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه‏:‏ مقصوراً وفتح الياء هنا خاصة‏.‏ وروي عنه‏:‏ ترك الهمز في القصص والعمل على الهمز فيه وقصر الممدود، وذكروا أنه من ضرورة الشعر، ولا ينبغي ذلك لثبوته في هذه القراءة، فيجوز قليلاً في الكلام‏.‏ والمشاقة‏:‏ المفاداة والمخاصمة للمؤمنين‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تشاقون بفتح النون، وقرأ نافع بكسرها، ورويت عن الحسن، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم هذه القراءة‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ بتشديدها، أدغم نون الرفع في نون الوقاية‏.‏ والذين أوتوا العلم، عام فيمن أوتي العلم من الأنبياء، وعلماء أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم، فلا يلتفتون إليهم، وينكرون عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هم الملائكة، وقاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ الحفظة من الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ من حضر الموقف من ملك وأنسي، وغير ذلك‏.‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ هم المؤمنون انتهى‏.‏ ويقول أهل العلم‏:‏ شماتة بالكفار وتسميعاً لهم، وفي ذلك إعظام للعلم، إذ لا يقول ذلك إلا أهله ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ تقدم تفسيره في سورة النساء‏.‏ والظاهر أنّ الذين صفة للكافرين، فيكون ذلك داخلاً في القول‏.‏ فإن كان القول يوم القيامة فيكون تتوفاهم حكاية حال ماضية، وإن كان القول في الدنيا لما أخبر تعالى أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول لهم ما يقول قال أهل العلم‏:‏ إذا أخبر الله تعالى بذلك أن الخزي اليوم الذي أخبر الله أنه يخزيهم فيه، فيكون تتوفاهم على بابها‏.‏ ويشمل من حيث المعنى من توفته، ومن تتوفاه‏.‏ ويجوز أن يكون الذين خبر مبتدأ محذوف، وأن يكون منصوباً على الذم، فاحتمل أن يكون مقولاً لأهل العلم، واحتمل أنْ يكون غير مقول، بل من إخبار الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

تقدم إعراب ماذا، إلا أنه إذا كانت ذا موصولة لم يكن الجواب على وفق السؤال، لكون ماذا مبتدأ وخبر، أو الجواب نصب وهو جائز، ولكن المطابقة في الإعراب أحسن‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ خيراً بالنصب أي‏:‏ أنزل خيراً‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ لم نصب هذا، ورفع الأول‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ فصلاً بين جواب المقر وجواب الجاحد، يعني‏:‏ أنّ هؤلاء لما سئلوا‏:‏ لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال مكشوفاً مفعولاً للإنزال فقالوا‏:‏ خيراً، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا‏:‏ هو أساطير الأولين، وليس من الإنزال في شيء انتهى‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ خير بالرفع أي‏:‏ المنزل فتطابق هذه القراءة تأويل من جعل إذا موصولة، ولا تطابق من جعل ماذا منصوبة، لاختلافهما في الإعراب، وإن كان الاختلاف جائزاً كما ذكرنا‏.‏ وروي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام المواسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الوفد كفه المقتسمون وأمره بالانصراف وقالوا‏:‏ إنْ لم تلقه كان خيراً لك فيقول‏:‏ أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأراه، فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه، وأنه نبي مبعوث، فهم الذين قالوا خيراً‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ للذين، مندرج تحت القول، وهو تفسير للخير الذي أنزله الله في الوحي‏:‏ أنّ من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ للذين أحسنوا وما بعده بدل من خير، حكاية لقول الذين اتقوا أي‏:‏ قالوا هذا القول، فقدم عليه تسميته خيراً ثم خكاه انتهى‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هو ابتداء كلام من الله تعالى، مقطوع مما قبله، وهو بالمعنى وعد متصل بذكر إحسان المتقين في مقالتهم‏.‏ ومعنى حسنة مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها‏.‏ ولما ذكر حال الكفار في الدنيا والآخرة ذكر حال المؤمنين في الدارين، والظاهر أنّ المخصوص بالمدح هو جنات عدن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ولنعم دار المتقين دار الآخرة، فحذف المخصص بالمدح لتقدم ذكره، وجنات عدن خبر مبتدأ محذوف انتهى‏.‏ وقاله ابن عطية‏:‏ وقبلهما الزجاج وابن الأنباري، وجوزوا أن يكون جنات عدن مبتدأ، والخبر يدخلونها‏.‏ وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات عدن بالنصب على الاشتغال أي‏:‏ يدخلون جنات عدن يدخلونها، وهذه القراءة تقوي إعراب جنات عدن بالرفع أنه مبتدأ، ويدخلونها الخبر‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ ولنعمت دار، بتاء مضمومة، ودار مخفوض بالإضافة، فيكون نعمت مبتدأ وجنات الخبر‏.‏ وقرأ السلمي‏:‏ تدخلونها بتاء الخطاب‏.‏ وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع‏:‏ يدخلونها بياء على الغيبة، والفعل مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر وشيبة‏:‏ تجري‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ في موضع الحال، وقال الحوفي‏:‏ في موضع نعت لجنات انتهى‏.‏ فكان ابن عطية لحظ كون جنات عدن معرفة، والحوفي لحظ كونها نكرة، وذلك على الخلاف في عدن هل هي علم‏؟‏ أو نكرة بمعنى إقامة‏؟‏ والكاف في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف أي‏:‏ جزاء مثل جزاء الذين أحسنوا يجزي، وطيبين حال من مفعول تتوفاهم، والمعنى‏:‏ أنهم صالحو الأحوال مستعدّون للموت والطيب الذي لا خبث فيه، ومنه‏:‏ ‏{‏طبتم فادخلوها خالدين‏}‏ وقال أبو معاذ‏:‏ طيبين طاهرين من الشكر بالكلمة الطيبة‏.‏ وقيل‏:‏ طيبين سهلة وفاتهم لا صعوبة فيها ولا ألم، بخلاف ما يقبض روح الكافر والمخلط‏.‏ وقيل‏:‏ طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله تعالى، وقيل‏:‏ زاكية أفعالهم وأقوالهم، وقيل‏:‏ صالحين، وقال الزمخشري‏:‏ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم‏.‏ ويقولون نصب على الحال من الملائكة، وتسليم الملائكة عليهم بشارة من الله تعالى، وفي هذا المعنى أحاديث صحاح‏.‏ وقوله‏:‏ هدى للمتقين، هو وقت قبض أرواحهم، قاله‏:‏ ابن مسعود، ومحمد بن كعب، ومجاهد‏.‏ والأكثرون جعلوا التبشير بالجنة دخولاً مجازاً‏.‏ وقال مقاتل والحسن‏:‏ عند دخول الجنة وهو قول خزنة الجنة لهم في الآخرة‏:‏ سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار‏.‏ فعلى هذا القول يكون يقولون حالاً مقدرة، ولا يكون القول وقت التوفي‏.‏ وعلى هذا يحتمل أن يكون الذين مبتدأ، والخبر يقولون، والمعنى‏:‏ يقولون لهم سلام عليكم‏.‏ ويدل لهذا القول قولهم‏:‏ ادخلوا الجنة، ووقت الموت لا يقال لهم ادخلوا الجنة، فالتوفي هنا توفي الملائكة لهم وقت الحشر‏.‏ وقوله‏:‏ بما كنتم تعملون ظاهره في دخول الجنة بالعمل الصالح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

مناسبة هذه الآية لما قلبها أنه تعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم‏:‏ أساطير الأولين، ثم أتبع ذلك بوعيدهم وتهديدهم، ثم توعد من وصف القرآن بالخيرية بين أن أولئك الكفرة لا يرتدعون عن حالهم إلا أن تأتيهم الملائكة بالتهديد، أو امر الله بعذاب الاستئصال‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ يأتيهم بالياء، وهي قراءة ابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وباقي السبعة بالتاء على تأنيث الجمع، وإتيان الملائكة لقبض الأرواح، وهم ظالمو أنفسهم، وأمر ربك العذاب المستأصل أو القيامة‏.‏ والكاف في موضع نصب أي‏:‏ مثل فعلهم في انتظار الملائكة أوامر الله فعل الكفار الذين يقدمونهم‏.‏ وقيل‏:‏ مثل فعلهم في الكفر والديمومة عليه فعل متقدموهم من الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ فعل هنا كناية عن اغترارهم، كأنه قيل‏:‏ مثل اغترارهم باستبطاء العذاب اغتر الذين من قبلهم، والظاهر القول الأول لدلالة‏:‏ هل ينظرون عليه، وما ظلمهم بالله بإهلاكهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بكفرهم وتكذيبهم الذي أوجب لهم العذب في الدنيا والآخرة‏.‏ وقوله‏:‏ فأصابهم، معطوف على فعل، وما ظلمهم اعتراض‏.‏ وسيئات‏:‏ عقوبات كفرهم‏.‏ وحاق بهم أحاط بهم جزاء استهزائهم‏.‏ وقال الذين أشركوا، تقدم تفسير مثل هذه الآية في آخر الأنعام، فأغنى عن الكلام في هذا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هنا يعني أنهم أشركوا بالله وحرموا ما أحل من البحيرة والسائبة وغيرهما، ثم نسبوا فعلهم إلى الله، وقالوا‏:‏ لو شاء الله لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه‏.‏ كذلك فعل الذين من قبلهم أي أشركوا وحرموا حلال الله، فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوا على ربهم، فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه، وبراءة الله من أفعال العباد، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها، وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال‏.‏ وهذا القول صادر ممن أقر بوجود الباري تعالى وهم الأكثرون، أو ممن لا يقول بوجوده‏.‏ فعلى تقدير أنّ الرب الذي يعبده محمد ويصفه بالعلم والقدرة يعلم حالنا، وهذا جدال من أي الصفنين كان ليس فيه استهزاء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء، ومن المطابقة التي أنكرت مطابقة الأدلة لإقامة الحجة من مذهب خصمها مستهزئة في ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قال الزمخشري‏:‏ ولقد أمد إبطال قدر السوء ومشيه الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله واجتناب الشر الذي هو الطاغوت فمنهم من هدى الله أي لطف به، لأنه عرفه من أهل اللطف، ومنهم من حقت عليه الضلالة أي ثبت عليه الخذلان والشرك من اللطف، لأنه عرفه مصمماً على الكفر لا يأتي منه خير‏.‏ فسيروا في الأرض فانظروا ما فعلت بالمكذبين حتى لا تبقى لكم شبهة وإني لا أقدر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال‏.‏ ولما قال‏:‏ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين، بيَّن ذلك هنا بأنه بعث الرسل بعبادته وتجنب عبادة غيره، فمنهم من اعتبر فهداه الله، ومنهم من أعرض وكفر، ثم أحالهم في معرفة ذلك على السير في الأرض واستقراء الأمم، والوقوف على عذاب الكافرين المكذبين، ثم خاطب نبيه وأعلمه أنّ من حتم عليه بالضلالة لا يجدي فيه الحرص على هدايته‏.‏

وقرأ النخعي‏:‏ وإن بزيادة واو وهو والحسن، وأبو حيوة‏:‏ تحرص بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة‏.‏ وقرأ الجمهور بالكسر مضارع حرص بالفتح، وهي لغة الحجاز‏.‏ وقرأ الحرميان، والعربيان، والحسن، والأعرج، ومجاهد، وشيبة، وشبل، ومزاحم الخراساني، والعطاردي، وابن سيرين‏:‏ لا يهدي مبنياً للمفعول، ومن مفعول لم يسم فاعله‏.‏ والفاعل في يضل ضمير الله والعائد على من محذوف تقديره‏:‏ من يضله الله‏.‏ وقرأ الكوفيون، وابن مسعود، وابن المسيب، وجماعة‏:‏ يهدي مبنياً للفاعل‏.‏ والظاهر أنّ في يهدي ضميراً يعود على الله، ومن مفعول، وعلى ما حكى الفراء أنّ هدى يأتي بمعنى اهتدى يكون لازماً، والفاعل من أي لا يهتدي من يضله الله‏.‏ وقرأت فرقة منهم عبد الله‏:‏ لا يهدي بفتح الياء وكسر الهاء والدال‏.‏ كذا قال ابن عطية، ويعني‏:‏ وتشديد الدال وأصله يهتدي، فأدغم كقولك في‏:‏ يختصم يخصم‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ يهدي بضم الياء وكسر الدال، قال ابن عطية‏:‏ وهي ضعيفة انتهى‏.‏ وإذا ثبت أن هدى لازم بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة، لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى‏:‏ لا يجعل مهتدياً من أضله، وفي مصحف أُبي‏:‏ لا هادي لمن أضل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وفي قراءة أبيّ فإنّ الله لا هادي لمن يضل ولمن أضل‏.‏ وقرئ‏:‏ يضل بفتح الياء، وقال أيضاً‏:‏ حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمان قريش، وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه لا يهدي من يضل أي‏:‏ لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث، والله تعالى متعالٍ عن العبث، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال‏.‏

والضمير في لهم عائد على معنى من، والضمير في وأقسموا عائد على كفار قريش‏.‏ وعن أبي العالية‏:‏ نزلت في رجل من المسلمين تقاضى ديناً على رجل من المشركين، فكان فيما تكلم به المسلم الذي ادخره بعد الموت فقال المشرك، وأنكر أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، بلى رد عليه ما نفاه، وأكده بالقسم، والتقدير‏:‏ بلى يبعثه‏.‏ وانتصب وعداً وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى من تقدير المحذوف الذي هو يبعثه‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ حقاً نعت لو عدا‏.‏ وقرأ الضحاك‏:‏ بلى وعد حق، والتقدير‏:‏ بعثهم وعد عليه حق، وحق صفة لوعد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وأقسموا بالله معطوف على وقال الذين أشركوا، إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا، توريك ذنوبهم على مشيئة الله، وإنكارهم البعث مقسمين عليه، وبيّن أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنهم يبعثون، أو أنه وعد واجب على الله لأنهم يقولون‏:‏ لا يجب على الله شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال‏.‏ وأكثر الناس هم الكفار المكذبون بالبعث‏.‏ وأما قول الشيعة‏:‏ إن الإشارة بهذه الآية إنما هي لعليّ بن أبي طالب، وأن الله سيبعثه في الدنيا، فسخافة من القول‏.‏ والقول بالرجعة باطل وافتراء على الله على عادتهم، رده ابن عباس وغيره‏.‏ واللام في ليبين متعلقة بالفعل المقدر بعد بلى أي‏:‏ نبعثهم ليبين لهم كما يقول الرجل‏:‏ ما ضربت أحداً فيقول‏:‏ بلى زيداً أي‏:‏ ضربت زيداً‏.‏ ويعود الضمير في يبعثهم المقدر، وفي لهم على معنى من في قوله‏:‏ من يموت، وهو شامل للمؤمنين والكفار‏.‏ والذي اختلفوا فيه هو الحق وأنهم كانوا كاذبين فيما اعتقدوا من جعل آلهة مع الله، وإنكار النبوّات، وإنكار البعث، وغير ذلك مما أمروا به‏.‏ وبين لهم أنه دين الله فكذبوا به وكذبوا في نسبة أشياء إلى الله تعالى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إنهم كذبوا في قولهم‏:‏ لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، وفي قولهم‏:‏ لا يبعث الله من يموت انتهى‏.‏ وفي قولهم دسيسة الاعتزال‏.‏ وقيل‏:‏ تتعلق ليبين بقوله‏:‏ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً، أي‏:‏ ليظهر لهم اختلافهم، وأنّ الكفار كانوا على ضلالة من قبل بعث ذلك الرسول، كاذبون في رد ما يجيء به الرسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 42‏]‏

‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

لما تقدّم إنكارهم البعث وأكدوا ذلك بالحلف بالله الذي أوجدهم، ورد عليهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ وذكر حقية وعده بذلك، أوضح أنه تعالى متى تعلقت إرادته بوجود شيء أوجده‏.‏ وقد أقروا بأنه تعالى خالق هذا العالم سمائة وأرضه، وأن إيجاده ذلك لم يوقف على سبق مادّة ولا آلة، فكما قدر على الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادراً على الإعادة‏.‏ وتقدم تفسير قوله تعالى‏:‏ كن فيكون في البقرة، فأغنى عن إعادته‏.‏ والظاهر أن اللام في لشيء وفي له للتبليغ، كقولك‏:‏ قلت لزيد قم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هي لام السبب أي‏:‏ لأجل إيجاد شيء، وكذلك له أي لأجله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد، لا إلى الإرادة‏.‏ وذلك أنّ الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال، لا في إرادة ذلك، ولا في الأمر به، لأن ذينك قديمان‏.‏ فمن أجل المراد عبر بإذا، ونقول‏:‏ وأما قوله لشيء فيحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لما كان وجوده حتماً جاز أن يسمى شيئاً وهو في حالة عدم‏.‏ والثاني‏:‏ أن قوله لشيء تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها، وأنّ ما كان منها موجوداً كان مراداً، وقيل له‏:‏ كن فكان، فصار مثالاً لما يتأخر من الأمور بما تقدّم، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئاً انتهى‏.‏ وفيه بعض تلخيص‏.‏ وقال‏:‏ إذا أردناه منزل منزلة مراد، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أنّ الموجودات تجيء وتظهر شيئاً بعد شيء، فكأنه قال‏:‏ إذا ظهر المراد فيه‏.‏ وعلى هذا الوجه يخرج قوله‏:‏ ‏{‏فسيرى الله عملكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ليعلم الذين آمنو منكم‏}‏ ونحو هذا معناه يقع منكم ما أراد الله تعالى في الأزل وعلمه، وقوله‏:‏ أن نقول، ينزل منزلة المصدر كأنه قال قولنا، ولكن أن مع الفعل تعطى استئنافاً ليس في الصدر في أغلب أمرها، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية‏.‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره‏}‏ وغير ذلك انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ ولكنْ أنّ مع الفعل يعني المضارع، وقوله‏:‏ في أغلب أمرها ليس بجيد، بل تدل على المستقبل في جميع أمورها‏.‏ وأما قوله‏:‏ وقد تجيء إلى آخره، فلم يفهم ذلك من دلالة أنْ، وإنما ذلك من نسبة قيام السماء والأرض بأمر الله، لأنّ هذا لا يختص بالمستقبل دون الماضي في حقه تعالى‏.‏ ونظيره ‏{‏إن الله كان على كل شيء قديراً‏}‏ فكان تدل على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي، وهو تعالى متصف بهذا الوصف ماضياً وحالاً ومستقبلاً، وتقييد الفعل بالزمن لا يدل على نفيه عن غير ذلك الزمن‏.‏ والذين هاجروا قال قتادة‏:‏ نزلت في مهاجري أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال داود بن أبي هند‏:‏ في أبي جندل بن سهيل بن عمرو‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ في صهيب، وبلال، وخباب بن الأرت، وأضرابهم عذبهم المشركون بمكة، فبوأهم الله المدينة‏.‏ وعلى هذا الاختلاف في السبب يتنزل المراد بقوله‏:‏ والذين هاجروا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ لما ذكر الله كفار مكة الذين أقسموا بأنّ الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور وهو الصحيح في سبب الآية، لأنّ هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزول الآية انتهى‏.‏ والذين هاجروا، عموم في المهاجرين كائناً ما كانوا، فيشمل أولهم وآخرهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ لنبوأنهم، والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي‏:‏ تبوئة حسنة‏.‏ وقيل‏:‏ انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر، لأنّ معنى لنبوأنهم في الدنيا لنحسنن إليهم، فحسنة في معنى إحساناً‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ حسنة مفعول ثان لنبوأنهم، لأنّ معناه لنعطينهم، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف أي‏:‏ دار حسنة انتهى‏.‏ وقال الحسن، والشعبي، وقتادة‏:‏ داراً حسنة وهي المدينة‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموا، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الرزق الحسن‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ النصر على عدوهم‏.‏ وقيل‏:‏ ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات‏.‏ وقيل‏:‏ ما بقي لهم فيها من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف‏.‏ وقيل‏:‏ الحسنة كل شيء مستحسن ناله المهاجرون‏.‏ وقرأ عليّ، وعبد الله، ونعيم بن ميسرة، والربيع بن خيثم‏:‏ لنثوينهم بالثاء المثلثة، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، وانتصب حسنة على تقدير إثواة حسنة، أو على نزع الخافض أي‏:‏ في حسنة، أي‏:‏ دار حسنة، أو منزلة حسنة‏.‏ ودل هذا الإخبار بالمؤكد بالقسم على عظيم محل الهجرة، لأنه بسببها ظهرت قوة الإسلام كما أنّ بنصرة الأنصار قويت شوكته‏.‏ وفي الله دليل على إخلاص العمل لله، ومن هاجر لغير الله هجرته لما هاجر إليه‏.‏ وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدال عليها الجملة المقسم عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ، خلافاً لثعلب‏.‏ وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوباً بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل‏.‏ ولا يجوز زيداً لأضربن، فلا يجوز زيداً لأضربنه‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه‏:‏ أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه قال‏:‏ خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكثر، ولأجر الآخرة أي‏:‏ ولأجر الدار الآخرة أكبر، أي‏:‏ أكبر أنْ يعلمه أحد قبل مشاهدته كما قال‏:‏ وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً‏.‏ والضمير في يعلمون عائد على الكفار أي‏:‏ لو كانوا يعلمون أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على المؤمنين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم، والذين صبروا على تقديرهم الذين، أو أعني الذين صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، لا سيما حرم الله المحبوب لكل قلب مؤمن، فكيف لمن كان مسقط رأسه‏؟‏ وعلى بذل الروح في ذات الله، واحتمال الغربة في دار لم ينشأ بها، وناس لم يألفهم أجانب حتى في النسب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 47‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

خسف المكان يخسف خسوفاً ذهب، وخسفه الله يريد أذهبه في الأرض به‏.‏

‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏.‏ بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون‏.‏ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون‏.‏ أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين‏.‏ أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءُوف رحيم‏}‏‏:‏ نزلت في مشركي مكة أنكروا نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا‏:‏ الله أعظم أن يكون رسوله بشراً، فهلا بعث إلينا ملكاً‏؟‏ وتقدّم تفسير هذه الجملة في آخر يوسف، والمعنى‏:‏ نوحي إليهم على ألسنة الملائكة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ يوحى بالياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة‏:‏ بالياء وكسرها وعبد الله، والسلمي، وطلحة، وحفص‏:‏ بالنون وكسرها‏.‏ وأهل الذكر‏:‏ اليهود، والنصارى، قاله‏:‏ ابن عباس، ومجاهد، والحسن‏.‏ وعن مجاهد أيضاً‏:‏ اليهود‏.‏ والذكر‏:‏ التوراة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر‏}‏ وعن عبد الله بن سلام، وسلمان‏.‏ وقال الأعمش، وابن عيينة‏:‏ من أسلم من اليهود والنصارى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ عام فيمن يعزى إليه علم‏.‏ وقال أبو جعفر وابن زيد‏:‏ أهل القرآن‏.‏ ويضعف هذا القول وقول من قال‏:‏ من أسلم من الفريقين، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين، لأنهم مكذبون لهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأظهر أنهم اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه الآية النازلة، إنما يخبرون من الرسل عن البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم، ولا يتهمون بشهادة لهم لنا، لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو كسر حجتهم ومذهبهم، لا أنا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه‏.‏ وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألونهم ويسدون إليهم انتهى‏.‏ والأجود أن يتعلق قوله‏:‏ بالبينات، بمضمر يدل عليه ما قبله كأنه قيل‏:‏ ثم أرسلوا‏؟‏ قال‏:‏ أرسلناهم بالبينات والزبر، فيكون على كلامين، وقاله‏:‏ الزمخشري وابن عطية وغيرهما‏.‏ وقد يتعلق بقوله‏:‏ وما أرسلنا، وهذا فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّ النية فيه التقديم قبل أداة الاستثناء، والتقدير‏:‏ وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً حتى لا يكون ما بعد إلا معمولين متأخرين لفظاً ورتبة، داخلين تحت الحصر لما قبلها، وهذا حكاه ابن عطية عن فرقة‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ أنْ لا ينوي به التقديم، بل وقعا بعد إلا في نية الحصر، وهذا قاله الحوفي والزمخشري، وبدأ به قال‏:‏ تتعلق بما أرسلنا داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي‏:‏ وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك‏:‏ ما ضربت إلا زيداً بالسوط، لأن أصله ضربت زيداً بالسوط انتهى‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ وفيه ضعف، لأنّ ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذا تم الكلام على إلا وما يليها، إلا أنه قد جاء في الشعر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ليتهم عذبوا بالنار جارهم *** ولا يعذب إلا الله بالنار

انتهى‏.‏ وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، لأنهم لا يجيزون أن يقع بعد إلا، إلا مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعاً، وما ظن من غير الثلاثة معمولاً لما قبل إلاّ قدر له عامل‏.‏ وأجاز الكسائي أن تقع معمولاً لما قبلها منصوب نحو‏:‏ ما ضرب إلا زيد عمراً، ومخفوض نحو‏:‏ ما مرّ إلا زيد بعمرو، ومرفوع نحو‏:‏ ما ضرب إلا زيداً عمرو‏.‏ ووافقه ابن الأنباري في الموفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال‏.‏ فالقول الذي قاله الحوفي والزمخشري يتمشى على مذهب الكسائي والأخفش، ودلائل هذه المذاهب مذكورة في علم النحو‏.‏ وأجاز الزمخشري أن يكون صفة لرجال أي‏:‏ رجالاً ملتبسين بالبينات فيتعلق بمحذوف، وهذا وجه سائغ، لأنه في موضع صفة لما بعد‏:‏ إلا، فوصف رجالاً بيوحى إليهم، وبذلك العامل في بالبينات كما تقول‏:‏ ما أكرمت إلا رجلاً مسلماً ملتبساً بالخير‏.‏ وأجاز أيضاً أن يتعلق بيوحى إليهم، وأن يتعلق بلا يعلمون‏.‏ قال‏:‏ على أنّ الشرط في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير‏:‏ إن كنت علمت لك فاعطني حقي، وقوله‏:‏ فاسألوا أهل الذكر، اعتراض على الوجوه المتقدمة يعني‏:‏ من التي ذكر غير الوجه الأخير‏.‏ وأنزلنا إليك الذكر‏:‏ هو القرآن، وقيل له ذكر لأنه موعظة وتبيه للغافلين‏.‏ وقيل‏:‏ الذكر العلم ما نزل إليهم من المشكل والمتشابه، لأن النص والظاهر لا يحتاجان إلى بيان‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ مما أمروا به ونهوا عنه، ووعدوا وأوعدوا‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ لتبين بسردك بنص القرآن ما نزل إليهم‏.‏ ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل، فيدخل في هذا ما تبينه السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد انتهى‏.‏ ولعلهم يتفكرون أي‏:‏ وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا، والسيئات نعت لمصدر محذوف أي‏:‏ المكرات السيئات قاله الزمخشري، أو مفعول يمكروا على تضمين مكروا معنى فعلوا وعملوا، والسيئات على هذا معاصي الكفر وغيره قاله قتادة، أو مفعول بأمن ويعني به العقوبات التي تسوءهم ذكرهما ابن عطية‏.‏ وعلى هذا الأخير يكون أن يخسف بدلاً من السيئات‏.‏ وعلى القولين، قبله مفعول بامن، والذين مكروا في قول الأكثرين هم أهل مكة مكروا بالرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو نمرود، والخسف بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل‏.‏ وذكر النقاش أنه وقع الخسف في هذه الأمة بهم الأرض كما فعل بقارون، وذكر لنا أنّ أخلاطاً من بلاد الروم خسف بها، وحين أحسن أهلها بذلك فرّ أكثرهم، وأن بعض التجار ممن كان يرد إليها رأى ذلك من بعيد فرجع بتجارته‏.‏

من حيث لا يشعرون‏:‏ من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها، كما فعل بقوم لوط في تقلبهم في أسفارهم قاله قتادة، أو في منامهم روي هذا وما قبله عن ابن عباس‏.‏ وقال الضحاك، وابن جريج، ومقاتل‏:‏ في ليلهم ونهارهم أي‏:‏ حالة ذهابهم ومجيئهم فيهما‏.‏ وقيل‏:‏ في تقلبهم في مكرهم وحيلهم، فيأخذهم قبل تمام ذلك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ جميع ما يتقلبون فيه، فما هم بسابقين الله ولا فائتيه‏.‏ والأخذ هنا الإهلاك كقوله‏:‏ ‏{‏فكلاًّ أخذنا بذنبه‏}‏ وعلى تخوف على تنقص قاله‏:‏ ابن عباس، ومجاهد، والضحاك‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال خوفته وتخوفته إذا تنقصته وأخذت من ماله وجسمه‏.‏ وقال الهيثم بن عدي‏:‏ هو النقص بلغة أزدشنوءة‏.‏ وفي حديث لعمر أنه سأل عن التخوف، فأجابه شيخ‏:‏ بأنه التنقص في لغة هذيل‏.‏ وأنشده قول أبي كثير الهذلي‏:‏

تخوف الرجل منها تامكاً قرداً *** كما تخوف عود النبعة السقر

وهذا التخوف بمعنى التنقص، قيل‏:‏ من أعماله، وقيل‏:‏ يأخذ واحداً بعد واحد، ورويا عن ابن عباس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ينقص ثمارهم وأموالهم حتى يهلكهم‏.‏ وقيل‏:‏ على تخوف، على خوف أن يعاقبهم أو يتجاوز عنهم قاله قتادة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ على تخوف متخوفين، وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا، فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله‏:‏ من حيث لا يشعرون انتهى‏.‏ وقاله الضحاك، يأخذ قرية فتخاف القرية الأخرى‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ على تخوف ضد البغتة أي‏:‏ على حدوث حالات يخاف منها كالرياح والزلازل والصواعق، ولهذا ختم بقوله تعالى‏:‏ إن ربكم لرؤوف رحيم، لأنّ في ذلك مهلة وامتداد وقت، فيمكن فيه التلافي‏.‏ وقال الليث بن سعد‏:‏ على تخوف على عجل‏.‏ وقيل‏:‏ على تقريع بما قدّموه، وهذا مروي عن ابن عباس‏.‏ ولما كان تعالى قادراً على هذه الأمور ولم يعاجلهم بها ناسب وصفه بالرأفة والرحمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

دخر دخوراً تصاغر، وفعل ما يؤمر شاء أو أبى‏.‏ فقال ابن عطية‏:‏ تواضع‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

فلم يبق إلا داخر في مجلس *** ومنجحر في غير أرضك في جحر

‏{‏أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيئوا ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون‏.‏ ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون‏.‏ يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏‏:‏ لما ذكر تعالى قدرته على تعذيب الماكرين وإهلاكهم بأنواع من الأخذ، ذكر تعالى طواعية ما خلق من غيرهم وخضوعه ضد حال الماكرين، لينبههم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره‏.‏ وقرأ السلمي، والأعرج، والأخوان‏:‏ أو لم تروا بتاء الخطاب إما على العموم للخلق استؤنف به الأخبار، وإما على معنى‏:‏ قل لهم إذا كان خطاباً خاصاً‏.‏ وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة‏.‏ واحتمل أيضاً أن يعود الضمير على الذين مكروا، واحتمل أن يكون إخباراً عن المكلفين، والأول أظهر لتقدم ذكرهم‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وعيسى، ويعقوب‏:‏ تتفيئوا بالتاء على لتأنيث، وباقي السبعة بالياء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ظلاله جمع ظل‏.‏ وقرأ عيسى‏:‏ ظلله جمع ظلة، كحلة وحلل‏.‏ والرؤية هنا رؤية القلب التي يقع بها الاعتبار، ولكنها بواسطة رؤية العين‏.‏ قيل‏:‏ والاستفهام هنا معناه التوبيخ‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يكون معناه التعجب والتقدير‏:‏ تعجبوا من اتخاذهم مع الله شريكاً وقد رأوا هذه المصنوعات التي أظهرت عجائب قدرته وغرائب صنعه، مع علمهم بأنّ آلهتهم التي اتخذوها شركاء لا يقدر على شيء البتة‏.‏ والجملة من قوله‏:‏ تتفيئوا، في موضع الصفة قاله الحوفي، وهو ظاهر قول ابن عطية والزمخشري‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ من شيء لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله‏:‏ تتفيؤ ظلاله، لأنّ ذلك صفة لما عرض للعبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وما موصولة بخلق الله وهو مبهم بيانه من شيء تتفيؤ ظلاله، وقال غير هؤلاء‏:‏ المعنى من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، وقوله‏:‏ تتفيؤ ظلاله، إخبار عن قوله من شيء وصف له، وهذا الإخبار يدل على ذلك الوصف المحذوف الذي هو له ظل‏.‏ وتتفيؤ تتفعل من الفيء، وهو الرجوع يقال‏:‏ فاء الظل يفيء فيأرجع، وعاد بعدما نسخه ضياء الشمس‏.‏ وفاء إذا عدي فبالهمزة كقوله‏:‏ ‏{‏ما أفاء الله على رسوله‏}‏ أو بالتضعيف نحو‏:‏ فيأ الله الظل فتفيأ، وتفيأ من باب المطاوعة، وهو لازم وقد استعمله أبو تمام متعدياً قال‏:‏

طلبت ربيع ربيعة الممهى لها *** وتفيأت ظلالها ممدودا

ويحتاج ذلك إلى نقله من كلام العرب متعدياً‏.‏ قال الأزهري‏:‏ تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس، والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله‏.‏

وقال الشاعر‏:‏

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه *** ولا الفيء من برد العشيّ تذوق

وقال امرؤ القيس‏:‏

تيممت العين التي عند ضارج *** يفيء عليها الظل عرمضها طام

وعن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ما لم تكن عليه فهو ظل، وذلك أنّ الشمس من طلوعها إلى وقت الزوال تنسخ الظل، فإذا زالت رجع، ولا يزال ينمو إلى أن تغيب‏.‏ والمشهور أنّ الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، والاعتبار في هذه الآية من أول النهار إلى آخره‏.‏ فمعنى تتفيؤ تتنقل وتميل، وأضاف الظلال وهي جمع إلى ضمير مفرد، لأنه ضمير ما، وهو جمع من حيث المعنى لقوله‏:‏ ‏{‏لتستووا على ظهوره‏}‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ في قراءة عيسى ظلله، وظله الغيم وهو جسم، وبالكسر الفيء وهو عرض في العامة‏:‏ فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى، وأما في العامة فعلى الاستعارة انتهى‏.‏

قالوا في قوله‏:‏ عن اليمين والشمائل، بحثان‏.‏ أحدهما‏:‏ ما المراد بذلك‏.‏ والثاني‏:‏ ما الحكمة في إفراد اليمين وجمع الشمائل‏؟‏ أما الأول فقالوا‏:‏ يمين الفلك وهو المشرق‏.‏ وشماله هو المغرب‏.‏ وخص هذان الاسمان بهذين الجانبين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله، فعلى هذا تقول الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك يقع الظلال إلى الجانب الغربي، فإن انحدرت من وسط الفلك عن الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي، فهذا المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال‏.‏ وقيل‏:‏ البلدة التي عرضها أقل من مقدار الميل تكون الشمس في الصيف عن يمين البلدة فتقع الظلال على يمينهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ المعنى أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ضلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقيه، استعارة من يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي‏:‏ ترجع الظلال من جانب إلى جانب انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والمقصود العبرة في هذه الآية، هو كل جرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على حسب الاستعارة لغير اللبس تقدره‏:‏ ذا يمين وشمال، وتقدره‏:‏ بمستقبل أي جهة شئت، ثم تنظر ظله فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كل أقطار الدنيا، فهذا يعم ألفاظ الآية‏.‏ وفيه تجوز واتساع‏.‏ ومن ذهب إلى أنّ اليمين من غدوة الزوال، ويكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال، وهو قول قتادة وابن جريج، فإنما يترتب فيما قدره مستقبل الجنوب انتهى‏.‏

وأما الثاني فقال الزمخشري‏:‏ واليمين بمعنى الأيمان، فجعله وهو مفرد بمعنى الجمع، فطابق الشمائل من حيث المعنى كما قال‏:‏ ‏{‏ويولون الدبر‏}‏ يريد الإدبار‏.‏ وقال الفراء‏:‏ كأنه إذا وجد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها لأنّ قوله ما خلق الله من شيء، لفظه واحد ومعناه الجمع، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد لقوله‏:‏ ‏{‏وجعل الظلمات والنور‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم‏}‏ وقيل‏:‏ إذا فسرنا اليمين بالمشرق، كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها، فكانت اليمين واحدة‏.‏ وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض، وهي كثيرة، فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع‏.‏ وقال الكرماني يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف، لأنّ الظل يفيء من الجهات كلها فبدئ باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها، أو تيمناً بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين اليمين والشمال من التضاد، وتنزل القدام والخلف منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف‏.‏ وقيل‏:‏ وحد اليمين وجمع الشمائل، لأن الابتداء عن اليمين، ثم ينقبض شيئاً فشيئاً حالاً بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمال، فتعدد بتعدد الحالات‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وما قال بعض الناس من أن اليمين أول وقعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمائل، وأفرد اليمين فتخليط من القول ومبطل من جهات‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً فقبض إليه الظل، فعلى هذا تأول دورة الشمس بالظل عن يمين مستقبل الجنوب، ثم يبدأ الانحراف فهو من الشمائل، لأنه حركات كثيرة وظلال منقطعة، فهي شمائل كثيرة، فكان الظل عن اليمين متصلاً واحداً عاماً لكل شيء انتهى‏.‏ وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكتامي المعروف بابن الصائغ‏:‏ أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين، لأنّ ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات، فلحظت الغايتان في الآية‏:‏ هذا من جهة المعنى، وفيه من جهة اللفظ المطابقة، لأنّ سجداً جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به، فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى، ولحظهما معاً وتلك الغاية في الإعجاز انتهى‏.‏ والظاهر حمل الظلال على حقيقتها، وعلى ذلك وقع كلام أكثر المفسرين وقالوا‏:‏ إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك، فإذا ارتفعت كان على يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا أرادت الغروب كان على يسارك‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الظلال هنا الأشخاص وهي المرادة نفسها، والعرب تخبر أحياناً عن الأشخاص بالظلال‏.‏ ومنه قول عبدة بن الطبيب‏:‏

إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية *** وفار للقوم باللحم المراجيل

وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الشاعر‏:‏

تتبع أفياء الظلال عيشة *** أي‏:‏ أفياء الأشخاص‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان أبو علي قرره انتهى‏.‏

والظاهر أن السجود هنا عبارة عن الانقياد، وجريانها على ما أراد الله من ميلان تلك الظلال ودورانها كما يقال للمشير برأسه إلى الأرض على جهة الخضوع‏:‏ ساجد‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ سجداً حال من الظلال، وهم داخرون حال من الضمير في ظلاله، لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق الله من شيء له ظل‏.‏ وجمع بالواو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب، والمعنى‏:‏ أنّ الظلال منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها‏.‏ ذاخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع انتهى‏.‏ فغاير الزمخشري بين الحالين، جعل سجداً حالاً من الظلال، ووهم داخرون حالاً من الضمير في سجداً، وأن يكون حالاً ثانية من الظلال كما تقول‏:‏ جاء زيد راكباً وهو ضاحك، فيجوز أن يكون وهو ضاحك حالاً من الضمير في راكباً، ويجوز أن يكون حالاً من زيد، وهذا الثاني عندي أظهر، والعامل في الحالين هو تتفيؤ، وعن متعلقة به، وقاله الحوفي‏.‏ وقيل‏:‏ في موضع الحال، وقاله أبو البقاء‏.‏ وقيل‏:‏ عن اسم أي‏:‏ جانب اليمين، فيكون إذ ذاك منصوباً على الظرف‏.‏ وأما ما أجازه الزمخشري من أن قوله‏:‏ وهم داخرون، حال من الضمير في ظلاله، فعلى مذهب الجمهور لا يجوز، وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة، ومن ذهب إلى أنه إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزء جاز، وقد يخبر هنا ويقول‏:‏ الظلال وإن لم تكن جزءاً من الأجرام فهي كالجزء، لأن وجودها ناشئ عن وجودها‏.‏ وذهبت فرقة إلى أن السجود هنا حقيقة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت وشجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إنما تسجد الظلال دون الأشخاص، وعنه أيضاً إذا زالت الشمس سجد كل شيء‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أما ظلك فيسجد لله، وأما أنت فلا تسجد له‏.‏ وقيل‏:‏ لما كانت الظلال ملصقة بالأرض واقعة عليها على هيئة الساجد وصفت بالسجود، وكون السجود يراد به الحقيقة وهو الوقوع على الأرض على سبيل العبادة وقصدها يبعد، إذ يستدعي ذلك الحياة والعلم والقصد بالعبادة‏.‏ وخصّ الظل بالذكر لأنه سريع التغير، والتغير يقتضي مغيراً غيره ومدبراً له، ولما كان سجود الظلال في غاية الظهور بدئ به، ثم انتقل إلى سجود ما في السموات والأرض‏.‏ ومن دابة‏:‏ يجوز أن يكون بياناً لما في الظرفين، ويكون مَن في السموات خلق يدبون‏.‏ ويجوز أن يكون بياناً لما في الأرض، ولهذا قال ابن عباس‏:‏ يريد كل ما دب على الأرض‏.‏

وعطف والملائكة على ما في السموات وما في الأرض، وهم مندرجون في عموم ما تشريفاً لهم وتكريماً، ويجوز أن يراد بهم الحفظة التي في الأرض، وبما في السموات ملائكتهنّ، فلم يدخلوا في العموم‏.‏ وقيل‏:‏ بين تعالى في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله، بين أنّ أشرف الموجودات وهم الملائكة، وأخسها وهي الدواب منقادة له تعالى، ودل ذلك على أن الجميع منقاد لله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ الدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب، فلما ميز الله تعالى الملائكة عن الدابة، علمنا أنها ليست مما يدب، بل هي أرواح مختصة بحركة انتهى‏.‏ وهو قول فلسفي‏.‏ ولما كان بين المكلفين وغيرهم قدر مشترك في السجود وهو الانقياد لإرادة الله، جمع بينهما فيه وإن اختلفا في كيفية السجود‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فهلا جيء بمن دون ما تغليباً للعقلاء من الدواب على غيرهم‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب، فكان متناولاً للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم انتهى‏.‏ وظاهر السؤال تسليم أنّ من قد تشمل العقلاء وغيرهم على جهة التغليب، وظاهر الجواب تخصيص من بالعقلاء، وأنّ الصالح للعقلاء وغيرهم ما دون من، وهذا ليس بجواب، لأنه أورد السؤال على التسليم، ثم ذكر الجواب على غير التسليم فصار المعنى‏:‏ أن من يغلب بها، والجواب لا يغلب بها، وهذا في الحقيقة ليس بجواب، والظاهر أنّ الضمير في قوله‏:‏ يخافون، عائد على المنسوب إليهم السجود‏.‏ في ولله يسجد، وقاله أبو سليمان الدمشقي‏.‏ وقال ابن السائب ومقاتل‏:‏ يخافون من صفة الملائكة خاصة، فيعود الضمير عليهم‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ والملائكة موصوفون بالخوف، لأنهم قادرون على العصيان وإن كانوا لا يعصون‏.‏ والفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى، فإن علقته بيخافون كان على حذف مضاف أي‏:‏ يخافون عذابه كائناً من فوقهم، لأن العذاب إنما ينزل من فوق، وإن علقته بربهم كان حالاً منه أي‏:‏ يخافون ربهم عالياً لهم قاهراً لقوله‏:‏ ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ ‏{‏وإنا فوقهم قاهرون‏}‏ وفي نسبة الخوف لمن نسب إليه السجود أو الملائكة خاصة دليل على تكليف الملائكة كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء مدارون على الوعد والوعيد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهم من خشيته مشفقون‏}‏ ومن يقل منهم‏:‏ إنه إله من دونه، فذلك نجزيه جهنم‏.‏ وقيل‏:‏ الخوف خوف جلال ومهابة‏.‏ والجملة من يخافون يجوز أن تكون حالاً من الضمير في من لا يستكبرون، ويجوز أن تكون بياناً لنفي الاستكبار وتأكيداً له، لأن من خاف الله لم يستكبر عن عبادته‏.‏ وقوله‏:‏ ويفعلون ما يؤمرون، أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفذ من أمر الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 55‏]‏

‏{‏وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏51‏)‏ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

وصب الشيء دام، قال أبو الأسود الدؤلي‏:‏

لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه *** يوماً بذمّ الدهر أجمع واصبا

وقال حسان‏:‏

غيرته الريح يسفى به *** وهزيم رعده واصب

والعليل وصيب، لكنّ المرض لازم له‏.‏ وقيل‏:‏ الوصب التعب، وصب الشيء شق، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها‏.‏ والجواز‏:‏ رفع الصوت بالدعاء، وقال الأعشى يصف راهباً‏:‏

يداوم من صلوات المليك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا *** ‏{‏وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السموات والأرض وله الدين واصباً أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بمآ آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون‏}‏‏:‏ لما ذكر انقياد ما في السموات وما في الأرض لما يريده تعالى منها، فكان هو المتفرد بذلك‏.‏ نهى أن يشرك به، ودل النهي عن اتخاذ إلهين على النهي عن اتخاذ آلهة‏.‏ ولما كان الاسم الموضوع للإفراد والتثنية قد يتجوز فيه فيراد به الجنس نحو‏:‏ نعم الرجل زيد، ونعم الرجلان الزيدان، وقول الشاعر‏:‏

فإن النار بالعودين تذكي *** وأن الحرب أولها الكلام

أكد الموضوع لهما بالوصف، فقيل‏:‏ إلهين اثنين، وقيل‏:‏ إله واحد، وقال الزمخشري‏:‏ الاسم الحامل لمعنى الإفراد أو التثنية دال على شيئين‏:‏ على الجنسية، والعدد المخصوص‏.‏ فإذا أردت الدلالة على أن المعنى به مبهم‏.‏ والذي يساق به الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به‏.‏ ألا ترى أنك إذا قلت‏:‏ إنما هو إله ولم تؤكده بواحد، لم يحسن، وخيل‏:‏ أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية انتهى‏.‏ والظاهر أن لا تتخذوا، تعدى إلى واحد واثنين كما تقدم تأكيد‏.‏ وقيل‏:‏ هو متعد إلى مفعولين، فقيل‏:‏ تقدم الثاني على الأول وذلك جائز، والتقدير‏:‏ لا تتخذوا اثنين إلهين‏.‏ وقيل‏:‏ حذف الثاني للدلالة تقديره معبوداً واثنين على هذا القول تأكيد، وتقرير منافاة الاثنينية للإلهية من وجود ذكرت في علم أصول الدين‏.‏ ولما نهى عن اتخاذ الإلهين، واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة، أخبر تعالى أنه إله واحد كما قال‏:‏ ‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏ بأداة الحصر، وبالتأكيد بالوحدة‏.‏ ثم أمرهم بأنْ يرهبوه، والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ في الرهبة، وانتصب إياي بفعل محذوف مقدر التأخير عنه يدل عليه فارهبون، وتقديره‏:‏ وإياي ارهبوا‏.‏ وقول ابن عطية‏:‏ فإياي، منصوب بفعل مضمر تقديره‏:‏ فارهبوا إياي فارهبون، ذهول عن القاعدة في النحو، أنه إذا كان المفعول ضميراً منفصلاً والفعل متعدياً إلى واحد هو الضمير، وجب تأخير الفعل كقولك‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏ ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله‏:‏

إليك حين بلغت إياكا‏.‏‏.‏‏.‏

ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة فأخبر تعالى‏:‏ أنّ له ما في السموات والأرض، لأنه لما كان هو الإله الواحد الواجب لذاته كان ما سواه موجوداً بإيجاده وخلقه، وأخبر أنّ له الدين واصباً‏.‏

قال مجاهد‏:‏ الدين الإخلاص‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ العبادة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الحدود والفرائض‏.‏ وقال الزمخشري وابن عطية‏:‏ الطاعة، زاد ابن عطية‏:‏ والملك‏.‏ وأنشد‏:‏

في دين عمرو وحالت بيننا فدك *** أي‏:‏ في طاعته وملكه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أوله الحداد أي‏:‏ دائماً ثابتاً سرمداً لا يزول، يعني الثواب والعقاب‏.‏ وقال ابن عباس، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، والثوري‏:‏ واصباً دائماً‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والواصب الواجب الثابت لأن كل نعمة منه بالطاعة واجبة له على كل منعم عليه، وذكر ابن الأنباري أنه من الوصب وهو التعب، وهو على معنى النسب أي‏:‏ ذا وصب، كما قال‏:‏ أضحى فؤادي به فاتناً، أي ذا فتون‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أو وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمى تكليفاً انتهى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون المعنى‏:‏ وله الدين والطاعة رضي العبد بما يؤمر به وسهل عليه أم لا يسهل فله الدين، وإن كان فيه الوصب‏.‏ والوصب‏:‏ شدّة التعب‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ واصباً خالصاً‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والواو في وله ما في السموات والأرض عاطفة على قوله‏:‏ إله واحد، ويجوز أن تكون واو ابتداء انتهى‏.‏ ولا يقال واو ابتداء إلا لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال، وإنما هي عاطفة‏:‏ فإما على الخبر كما ذكر أولاً فتكون الجملة في تقدير المفرد لأنها معطوفة على الخبر، وإما على الجملة بأسرها التي هي‏:‏ إنما هي إله واحد، فيكون من عطف الجمل‏.‏ وانتصب واصباً على الحال، والعامل فيها هو ما يتعلق به المجرور‏.‏ أفغير الله استفهام تضمن التوبيخ والتعجب أي‏:‏ بعدما عرفتم وحدانيته، وأن ما سواه له ومحتاج إليه، كيف تتقون وتخافون غيره ولا نفع ولا ضر يقدر عليه‏؟‏ ثم أخبر تعالى بأنّ جميع النعم المكتسبة منا إنما هي من إيجاده واختراعه، ففيه إشارة إلى وجوب الشكر على ما أسدى من النعم الدينية والدنيوية‏.‏ ونعمه تعالى لا تحصى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ وما موصولة، وصلتها بكم، والعامل فعل الاستقرار أي‏:‏ وما استقر بكم، ومن نعمة تفسير لما، والخبر فمن الله أي‏:‏ فهي من قبل الله، وتقدير الفعل العامل بكم خاصاً كحلّ أو نزل ليس بجيد‏.‏ وأجاز الفرّاء والحوفي‏:‏ أن تكون ما شرطية، وحذف فعل الشرط‏.‏ قال الفراء‏:‏ التقدير‏.‏ وما يكن بكم من نعمة، وهذا ضعيف جداً لأنه لا يجوز حذفه إلا بعد أن وحدها في باب الاشتغال، أو متلوّة بما النافية مدلولاً عليه بما قبله، نحو قوله‏:‏

فطلقها فلست لها بكفء *** وإلا يعل مفرقك الحسام

أي‏:‏ وإلا تطلقها، حذف تطلقها الدلالة طلقها عليه، وحذفه بعد أنْ متلوة بلا مختص بالضرورة نحو قوله‏:‏

قالت بنات العم يا سلمى وإن *** كان فقيراً معدماً قالت وإن

أي‏:‏ وإن كان فقيراً معدماً، وأما غير إن من أدوات الشرط فلا يجوز حذفه إلا مدلولاً عليه في باب الاشتغال مخصوصاً بالضرورة نحو قوله‏:‏ أينما الريح تميلها تمل‏.‏ التقدير‏:‏ أينما تميلها الريح تميلها تمل‏.‏ ولما ذكر تعالى أنّ جميع النعم منه ذكر حالة افتقار العبد إليه وحده، حيث لا يدعو ولا يتضرع لسواه، وهي حالة الضر والضر، يشمل كل ما يتضرر به من مرض أو فقر أو حبس أو نهب مال وغير ذلك‏.‏ وقرأ الزهري‏:‏ تجرون بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الجيم‏.‏ وقرأ قتادة‏:‏ كاشف، وفاعل هنا بمعنى فعل، وإذا الثانية للفجاءة‏.‏ وفي ذلك دليل على أنّ إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب، لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها‏.‏ ومنكم‏:‏ خطاب للذين خوطبوا بقوله‏:‏ وما بكم من نعمة، إذ بكم خطاب عام‏.‏ والفريق هنا هم المشركون المعتقدون حالة الرجاء أنّ آلهتهم تنفع وتضر وتشقى‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ المنافقون‏.‏ وعن ابن السائب‏:‏ الكفار‏.‏ ومنكم في موضع الصفة، ومِنْ للتبعيض، وأجاز الزمخشري أن تكون من للبيان لا للتبعيض قال‏:‏ كأنه قال فإذا فريق كافر وهم أنتم‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن تكون فيهم من اعتبر كقوله‏:‏ ‏{‏فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد‏}‏ انتهى واللام في ليكفروا، إن كانت للتعليل كان المعنى‏:‏ أنّ إشراكهم بالله سببه كفرهم به، أي جحودهم أو كفران نعمته، وبما آتيناهم من النعم، أو من كشف الضر، أو من القرآن المنزل إليهم‏.‏ وإن كانت للصيرورة فالمعنى‏:‏ صار أمرهم ليكفروا وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، بل آل أمر ذلك الجؤار والرغبة إلى الكفر بما أنعم عليهم، أو إلى الكفر الذي هو جحوده والشرك به‏.‏ وإن كانت للأمر فمعناه التهديد والوعيد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ليكفروا فتمتعوا، يجوز أن يكون من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية، واللام لام الأمر انتهى‏.‏ ولم يخل كلامه من ألفاظ المعتزلة، وهي قوله‏:‏ في معنى الخذلان والتخلية‏.‏ وقرأ أبو العالية‏:‏ فيمتعوا بالياء باثنتين من تحتها مضمومة مبنياً للمفعول، ساكن الميم وهو مضارع متع مخففاً، وهو معطوف على ليكفروا، وحذفت النون إما للنصب عطفاً إنْ كان يكفروا منصوباً، وإما للجزم إن كان مجزوماً أن كان عطفاً، وأن للنصب إن كان جواب الأمر‏.‏ وعنه‏:‏ فسوف يعلمون بالياء على الغيبة، وقد رواهما مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والتمتع هنا هو بالحياة الدنيا ومآلها إلى الزوال‏.‏